حـدث ذات ليــلة
قصة محمود البدوى
حدث ذات ليلة من ليالى الصيف عام 1919 وكانت الثورة المصرية مشتعلة فى طول البلاد وعرضها ، أن نشبت المعركة بين المصريين والإنجليز فى مدينة أسيوط .. وبدأت بإطلاق النيران على معسكرات الإنجليز عند الخزان .
واحتملت قرية " الوليدية " وهى قرية صغيرة مجاورة للخزان كل أعباء المعركة .. على أن القرى المجاورة لم تتركها وحدها بل أرسلت إليها أحسن رجالها الشجعان .
كان الرجال يأتون إليها من كل صوب على ظهر المراكب الشراعية الصغيرة والكبيرة .. ويخوضون غمار المعركة مستبسلين .
وكنا نحارب كما يحارب الثوار فى غير نظام ولا قيادة .. ومع هذا فقد فكرنا فى أن نفعل ما يفعله المحاربون فى الميدان حقا .. فكرنا فى أن نقطع الخط الحديدى عند قرية " منقباد " لنمنع المدد والمؤن عن الأعداء وبذلك نميتهم جوعا .
واجتمع فى قرية صغيرة على الضفة الشرقية للنيل أكثر من خمسمائة رجل من مختلف القرى مسلحين بالبنادق القديمة والحديثة والخناجر والعصى والحراب .. ومعهم خيولهم وجمالهم وحميرهم .
ونحرت لنا الذبائح .. وجلسنــا نتعــشى فى العراء على " الطبالى " خمسة .. خمسة .. وكنا نتحدث فى حماسة بالغة ، ونلتهم الطعام على ضوء المشاعل .. ونسمع صهيل الخيل وهدير الفحول .. وعواء الكلاب فى القرية .. وكنت أرى عيون الرجال تبرق فى الظلام .. وأشاهد فى دائرة الضوء لحاهم وشواربهم الضخمة وأجسامهم الطويلة .. وكانوا يرتدون الجلابيب السمراء والزرقاء ويعصبون رءوسهم .. ويتمنطقون بالأحزمة الجلدية المليئة بالرصاص والخرطوش .
وكانوا يمسحون أفواههم بأطراف أكمامهم ، ويشعلون لفائف التبغ .. ويشربون القهوة .. ويتحدثون عن الليل والرجال .
وكنت مأخوذا بسحر حديثهم وبقوة شخصيتهم .. وبجبروتهم الذى لاحد له .
كان أكثرهم من الرجال الشجعان الذين يقطنون فى الجبل الشرقى .. وقد نشأوا أحرارا أشداء .. يأبون الضيم ويدافعون عن العرين .
وعندما وقف واحد من الطلاب وأخذ يتحدث عن الاستعمار والبلاء الأسود النازل بالبلاد .. رأيتهم ينصتون فى سكون وعيونهم تلمع ووجوههم منفعلة من فرط الغضب .. ثم أخذوا يعمرون البنادق ويشحذون الأسلحة .
وتركنا الخيل والجمال والحمير مع الغلمان .. وعبرنا النيل إلى الضفة الغربية وهناك انقسمنا إلى فرق صغيرة اتجه بعضها إلى الخزان .. وذهبت مع فرقة مكونة من ثمانية عشر رجلا من الرجال الأشداء إلى " منقباد " لنقطع الشريط الحديدى وكنت على رأس هذه الفرقة .. وسرنا حذاء النيل على الرمال الناعمة .. وكان الليل فى أخرياته والظلام شاملا والسكون رهيبا .. ثم انحرفنا عن الطريق السوى وسرنا وسط الحقول .. وكانت السماء كابية والريح تزأر فى أخصاص " البوص " التى مررنا بها .. ولما صعدنا المنحدر واقتربنا من الخط الحديدى بدا صوت اقدامنا يسمع بوضوح فى هذا السكون العميق .. وتقدمنا فى قلب الليل ولما بلغنا الجسر كان الشريط يلمع ملتويا فى الظلام .. وكانت أعمدة البرق وأسلاك التليفون تهتز والريح تصفر فى جنبات الوادى المقفر .. وعندما أخذت أرجلنـا تضرب على الزلط الذى يتخلل القضبان .. شعرت بعظم المهمة الملقاة على عاتقى وانتابتنى الرهبة .. وأخذت المكان بنظرة خاطفة وأعطيت الإشارة للرجال .. وبدأت المعاول تعمل .. وبعد قليل فرغنا من مهمتنا وقفلنا راجعين .
***
تفرقنا فى قلب الليل كالذئاب بعد أن تنفض مخالبها من الفريسة .. وسرت وحدى وسط الحقول .. وكان الليل ساكنا وأشجار النخيل تخيم من بعيد على قرية " الوليدية " وتغرقها فى لجة من الظلام الشديد .. وكانت الكلاب لاتزال تنبح فى الحقول .. والديكة تصيح فى أكواخ الفلاحين معلنة طلوع الفجر .. وعندما بلغت طرف القرية الشمالى شعرت بالجوع والنعاس فتمددت فى ظل شجرة كبيرة من أشجار السنط .. وأخذنى النوم واستيقظت على دوى الرصاص .. وكان اليوم الثالث للمعركة بيننا وبين الانجليز .. فذهبت إلى الميدان وظللت أقاتل حتى المساء .
وفى اليوم الخامس ظهرت طيارة فى السماء .. وأخذت تلقى القنابل على غير هدف .. وذعر الناس ولم يكن لنا بها عهد ..
وحملنا بنادقنا فى أيدينا وأخذنا نهيم على وجوهنا فى الأرض .. وأخذت المراكب الشراعية تعود بالمحاربين إلى ديارهم ..
وكان الوجوم والتعاسة والخيبة المرة مرتسمة على الوجوه ، وكنا نحن الشبان الأشداء نغلى غيظا فلم نكن ندرى علة هزيمتنا .. لقد بدأنا المعركة كجنود من الطراز الأول وعندما كففنا عن النار خيل إلينا أننا قد انتهينا .. ولكننا مع هذا لم نلق السلاح .
***
وخمدت الثورة فى القاهرة وأرسل الإنجليز فرقة جديدة إلى أسيوط .. وكانت ترابط عند الخزان فى حديقة كبيرة هناك .. وكانوا يخرجون من معسكراتهم فى الليل سكارى ويشتبكون فى عراك مع الأهالى .
وكنت قد هجرت قريتى وأخذت أمضى الليل فى بستان صغير قريب من " الوليدية " لأن الإنجليز انطلقوا يفتشون القرى فى الشرق ، باحثين عن الأسلحة ورجال الثورة .
وذات ليلة جلست كعادتى فى البستان .. وكان بجواره طريق صغير ينحدر إلى النيل ومنه تنزل الفلاحات لملء جرارهن .. وكن يحملن الجرار على رءوسهن وينزلن إلى الماء .. ويشمرن عن سواعدهن ويرفعن أطراف ثيابهن ، وتبدو سيقانهن البللورية وهى تغوص فى اللج .. وعندما يملأن الجرار ويطلعن على اليابسة يتركن ثيابهن تنسدل وشعرهن يهتز فى ضفائر على ظهورهن .. والخلاخيل الفضية تبدو فى السيقان الممتلئة وهن صاعدات المنحدر .
ومر فى الطريق بعض الجنود الإنجليز .. وأخذوا فى معابثة النساء الخارجات من الماء .. وطار هؤلاء مذعورات وتركن الجرار تسقط وتتهشم .. وأمسك واحد منهم بواحدة من يدها ورأيته يعابثها ويهم بتقبيلها وهى تصرخ وتستغيث ، وتملكنى غيظ مستعر وأنا أشاهد هذا المنظر .
وتجمع الأهالى واشتبكوا فى عراك دموى مع الإنجليز .. ورأيت أحد الجنود يخرج مسدسا ويطلق النار كالمجنون .. وكان الأهالى عزلا من السلاح .. فأخرجت بندقيتى من مكمنها .. وسددتها وسقط .. وأطلقوا النار فى كل اتجاه .. فأصابتنى رصاصة فى ساقى ولكننى تحاملت على نفسى وزحفت فى الظلام .
وفرغت الشوارع من المارة بعد دقيقة واحدة .. وخيم سكون القبور على كل شىء ، وأخذ الظلام يشتد ، وسمعت وأنا ممدد فى مكمنى حركة فى طرف البستان .. ثم ظهرت عن بعد داورية إنجليزية تفتش فى كل مكان وبدا لى أنهم أخذوا يطوقون البستان .. فأسرعت وربطت ساقى بقطعة من القماش نزعتها من ثوبى بعد أن حشوت الجرح بالتراب .. وزحفت فى حذر .. ودارت عيناى فيما حولى تبحث عن ملجأ فى هذا الظلام .
وشاهدت منزلا صغيرا على النيل فاتجهت نحوه وأنا مدفوع بقوة لاقبل لى بها .. ودفعت الباب ودخلت .. وسمعت صوتا نسائيا يقول :
ـ مين ..؟
ـ أنا ..
ورأيت امرأة فى صحن الدار .. وكانت تلبس جلبابا أسود .. وعلى رأسها منديل أسمر .. ونظرت إلىّ فى هلع وأنا داخل بيتها وبيدى البندقية وعلى وجهى الشر .
وقالت بصوت مرتجف :
ـ مالك ..؟
ـ جريح .. وعطشان ..
ودخلت ومشت إلى الداخل دون أن تنبس ، وعادت بعد قليل بكوز فتناولته منها ورفعته إلى فمى مرة واحدة .. وسمعت حركة شديدة ولغطا فى الشارع .. فانزويت خلف الباب وأمسكت البندقية فى يدى .. وتهيأت لكل الطوارىء .. ووقفت المرأة تنظر إلىّ من بعيد وهى مضطربة واجمة .
وسمعت طرقا شديدا على الباب .. فلم يرد أحد .. وخيم السكون لحظات .. ثم سمعت من يقول بصوت عال :
ـ دا بيت حميدة .. يا شيخ الخفر .. وهيا مسافرة ..
ـ مسافرة ..؟
ـ أيوه .. مسافره بحرى .. من مدة ..
وبعد الصوت .. وخيم السكون من جديد فتنفست الصعداء .. ورجعت إلى صحن الدار وأنا أتحامل على نفسى وتمددت هناك .. ونظرت إلى المرأة طويلا ولم تقل شيئا .. فقلت لها :
ـ لاتخافى .. سأستريح قليلا ثم أذهب .. متى فرغوا من التفتيش
ـ ولماذا تخاف أنت ..؟
ـ البندقية .. وأنت تعرفين الأحكام العسكرية ..
ـ هاتها .. وأنا أخبئها فى مكان لايعرفه أحد ..
فقلت لها وأنا أبتسم :
ـ إنها سلاحى .. وأنا لا ألقى السلاح ..
فهزت كتفها ووقفت ساكنة وبعد قليل تحركت نحو الباب الخارجى .. فقلت لها بصوت هادىء :
ـ إلى أين ..؟
ـ سأشترى بعض الأشياء من السوق ..
ـ مكانك .. لن تبرحى هذا البيت ما دمت أنا فيه ..
ـ إنك مجنون ..
قالت هذا واحمر وجهها غضبا .. وظلت واقفة فى مكانها بجانب الباب .. ثم استدارت ومشت إلى الداخل .. وعاد إليها بعض الهدوء ..
وقالت مبتسمة بصوت رقيق :
ـ ألا تعرفنى ..؟
ـ أبدا..
ـ أنا حميدة الغربية .. بياعة القماش .. وأنت من بنى مر .. وأنا أعرفك جيدا .. واسمك عبد الرحمن المرى ..
فذهلت .. كيف عرفت اسمى ..
واستطردت :
ـ لقـد ذهبت إلى منزلكم فى غرب البلد مرارا .. ألا تذكرنى ..؟
وتذكرتها بخالها الأسود على خدها الأيمن .. وبعينها العسليتين وابتسامتها الحلوة .
ـ عرفتنى ..؟
ـ أيوه ..
ـ سيبنى أطلع بره ..
ـ لأ..
وجلست على الأرض أمامى .. وكان المصباح البترولى الصغير تهتز ذبالته وبريق الضوء على وجهها الصبوح ، وكان ثوبها الأسمر يلف جسمها الممتلىء ، ومنديلها يغطى جزءا من شعرها .
وأخذنا نتحدث حتى مضى جزء كبير من الليل .. وكنت أتصور أنها تمهلنى لأنام .. ومتى نمت خرجت ، ولهذا ظللت ساهرا لاتغمض لى جفن .. وذهبت هى إلى فراشها ..
وفى الصباح ابتدرتها بقولى :
ـ حميدة .. هاتى مفتاح الباب الخارجى ..
فأعطتنى المفتاح وهى صاغرة ووضعته تحت رأسى ..
ومكثت معها ثلاثة أيام .. وظلت محبوسة قلقة مضطربة وزادها الحبس اضطرابا وعصبية وكاد ما فى البيت من خبز وإدام أن ينفد وجعلها هذا أكثر قلقا .. وكانت ترمينى بنظرات نارية وتبتعد عنى ما أمكن ..
ولما نفد معين صبرها قالت لى بصوت خافت :
ـ أنا عارفة ..
ـ عارفة إيه ..؟
ـ القاتل ..
وانتفضت ..
ومضت تقول فى خبث ظاهر :
ـ لقد رأيته بعينى هاتين من سطح البيت .. وكان فى البستان ..
وتحركت من مكانى أزحف على قدمى ، وعيناى ترميانها بنظرات ملتهبة .. واجتاحتنى موجة من الغضب جارفة عارمة .. عندما تبينت أنها تعرف سرى كله .. وأننى معلق فى حبل المشنقة ، وهى التى تمسك بيدها الحبل .. وإن شاءت جذبته وطوقت به عنقى ..
وأمسكت بقبضتها وجذبتها نحوى
وقالت بصوت راعش :
ـ سيبنى يا مجرم .. سيب ..
ودارت يدى حول رسغها .. وشددتها إلىّ .. وكنت قد نهضت نصف قومة .. فدفعتنى بيدها إلى الوراء بقوة .. وقد تدحرجنا على الأرض فطوقتها بذراعى ، وأخذت أضرب وجهها وجسمها ضربا مبرحا ، وأخذت تبكى بصوت مكتوم وتضربنى ما وسعها الضرب .
واشتبكنا فى عراك طويل .. ولم تعد بى قوة على الامساك بها فأطلقتها .. فنهضت وعيناها مخضلتان بالدمع .. وكان شعرها منفوشا ووجهها محتنقا .. ودارت فى صحن الدار كالمجنونة ثم بصرت بقالب فى " الكانون " فأسرعت ورمتنى به .. وحط القالب على صدغى وغبت عن الوجود .
ولما فتحت عينى كان الظلام يخيم .. وكان الدم يلطخ وجهى وثوبى .. وكانت حميدة جالسة عند رأسى تمسح الدم بمنديلها ! ولما شعرت بأننى تنبهت حركت يدها فى لين ورفق على جبينى ، ثم أخذت تتحسس ذراعى .. وقربت وجهها من وجهى ونظرت طويلا فى عينى .. ثم ارتمت على صدرى ، وطوقتها بذراعى ورحنا فى عناق طويل .
ولما التأم الجرح وقويت على السير خرجت فى ظلام الليل مودعا حميدة وكانت فى لباسها الأسود وعلى رأسها منديلها وخرجت معى إلى الزورق الذى أعدته لى ..
ولما تحرك الزورق بى وقفت على الشاطىء تمسح عبراتها .. فتحولت بوجهى عنها ، وأنا أغالب عواطفى واتجهت إلى الشرق ..
================================
نشرت فى مجلة قصص للجميع 14/11/1950وأعيد نشرها فى مجموعة " حدث ذات ليلة " لمحمود البدوى 1953 وفى مجموعة قصص من الصعيد من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى عام 2002
=================================
السبت، ٢٣ ديسمبر ٢٠٠٦
حدث ذات ليلة ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى
الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦
الرجل الأشول ـ قصة ل محمود البدوى
الرجل الاشول
قصة محمود البدوى
حدث فى أعقاب الثورة المصرية سنة 1919 أن خرج جنديان انجليزيان من المعسكر فى مدينة أسيوط .. وسارا على الخيل بين المزارع .. وكان الجو لطيفا فأبعدا فى السير .. ولم يستطيعا مقاومة الرغبة فى الاستكشاف .. فانطلقا بالخيل على الجسر حتى دخلا القرى التى توجد شرق الخزان .. وقابلهما الفلاحون بالهدوء والصمت .
وفى اليوم التالى رآهما الفلاحون مقبلين من بعيد .
وفى اليوم الثالث كانا يعدوان بجواديهما كأنهما فى حلبة السباق .. فنفرت البهائم العائدة من الحقول .. وذعر الغلمان ودهس أحد الجوادين المنطلقين غلاما صغيرا كان يلعب بجوار الترعة .. فقتله ..
وقبل أن يبلغ الجنديان المدينة .. أصابت راكب الجواد الاشهب الذى قتل الغلام رصاصة فسقط على الجسر .
وحوصرت القرية القريبة من مكان الحادث وفتشت وضرب أهلها بالكرابيج ..
ورغم هذا لم يستدل على الفاعل ..
واستمر الحصار وكان والد الغلام القتيل متوفيا فقبض على كل من يمت له بصلة .. ومنع الأهالى من الخروج إلى الحقول بعد الغروب .. واستمر التحقيق اسبوعا بطوله ..
وقرر الطبيب الشرعى أن القتيل أصيب من رصاصة أطلقت من مسافة بعيدة تزيد على مائة متر .. وأن الرامى أصاب سويداء القلب ، وأنه لم يحدث فى حياته كطبيب أن رأى مثل هذا التصويب ..
ورأى المحققون أن القاتل لابد أن يكون مدربا تدريبا متقنا على ضرب النار .. ويرجح أن يكون من عساكر الرديف ..
وقبض على كل عساكر الرديف فى المنطقة .. وقدم من القاهرة جنود بلوك الخفر وعلى رأسهم ضابط مصرى اشتهر فى أيام الثورة بكراهيته الشديدة للمصريين .. وأخذ فى جمع السلاح من كل بيت فى القرية ..
وكان يحلف الرجل على المصحف .. فإذا أخرج ما عنده تركه .. وإذا لم يكن لديه سلاح .. شد الجنود وثاقه وعلقوه فى حديد الشبابيك .. وأخذوا يضربونه ضربا مبرحا .. حتى يغمى عليه .
وبدأ بالأعيان .. وبالرؤوس .. ليكون الاذلال تاما .. وتكومت قطع السلاح .. وظل الأهالى يصرخون من التعذيب حتى قارب الليل منتصفه .. ثم تعشى العساكر وناموا ..
***
وفى الصباح القى الضابط نظرة على قطع السلاح التى جمعها .. وأخذ يجرب بعضها فى ضرب النار .. ثم أخرج مسدسة .. وأخذ يصوب .
وكان يصيب الهدف من كل الأبعاد .. ورسموا له دائرة بحجم القرش فأصابها من مسافة عشرين مترا ..
وأخذ العمدة والأعيان يصوبون مثله .. ولكنهم كانوا يخطئون الهدف فى معظم الحالات .. وأخذت الضابط الحمية فسمح للأهالى بأن يشتركوا فى المباراة .. ولكن لم يبلغ أحد شأوه .. وظل هو المتفوق الذى ليس له ضريب .
وأظهر براعته الخارقة بأن كتب اسمه على الحائط بالرصاص وصفق له الناس .. ورجع بكرسيه إلى الوراء وهو يضحك مزهوا ..
***
ولم يكتف بهذا الانتصار .. بل فكر فى شىء مثير .. فقرر أن يقف أحد الخفراء فى الساحة بجوار حائط " الدوار " وعلى لبدته الحمراء .. بيضة دجاجة !!
ومع كل ما فى المسألة من حماقة لم يستطع أحد أن يفتح فمه ..
ووقف الخفير المسكين .. وطارت البيضة من فوق رأسه وصفق الناس .. وضحك الضابط ..
وقرر أن يخلع الخفير اللبدة وأن توضع البيضة على رأسه وذهل الناس ونظر بعضهم إلى بعض .. ولكن لم يستطع واحد من الجالسين أو الواقفين أن يعارض هذه الرغبة ..
ووضعت البيضة على رأس الخفير المسكين وامتلأت الساحة بالأهالى .. وكتم الناس الأنفاس .
وخيم السكون واستقرت العيون كلها على رأس الخفير .. وكفت القلوب عن الخفقان .. واستعد الضابط ليضرب ضربته .
وفى هذه اللحظة .. انطلق شىء وهو يصفر من فوق رأس الضابط .. وطارت البيضة ..
وتلفت الضابط والناس مذعورين .. ووجدوا رجلا يقف وحده وراء الساحة .. ويمسك بيده اليسرى بندقية قصيرة .
وصاح أحد الواقفين
ـ حسين الاشول ..
وظل الاشول هناك فى مكانه أكثر من دقيقة يرقب القوم فى الساحة بعينى صقر .. ثم وضع البندقية فى كتفه وبارح المكان .
***
وفى ساعة الظهر رأى الضابط من نافذة السيارة .. نفس الرجل الاشول .. يهبط بحمل صغير التل .. وعلى كتفه نفس البندقية .. فوضع الضابط يده على مسدسه .. وأخرجه من جيبه .. وهو يتابع الاشول ببصره .. ومرت لحظة رهيبة .. شعر الضابط بعدها بيده تعيد المسدس إلى مكانه ..
ولما انطلقت السيارة فى أقصى سرعتها وغاب الرجل عن بصره .. كان الضابط يسائل نفسه فى تعجب ..
ـ لماذا لم يقبض على الرجل .. بعد أن تيقن أنه هو الذى قتل الضابط الإنجليزى .. لماذا ..؟ ولماذا حتى لم يجرده من سلاحه ؟
وأشعل سيجارة شعر بعدها بالراحة .
وكانت السيارة قد اقتربت من المحطة ..
===============================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 19/8/1956 واعيد نشرها فى مجموعة قصص من الصعيد من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================
قصة محمود البدوى
حدث فى أعقاب الثورة المصرية سنة 1919 أن خرج جنديان انجليزيان من المعسكر فى مدينة أسيوط .. وسارا على الخيل بين المزارع .. وكان الجو لطيفا فأبعدا فى السير .. ولم يستطيعا مقاومة الرغبة فى الاستكشاف .. فانطلقا بالخيل على الجسر حتى دخلا القرى التى توجد شرق الخزان .. وقابلهما الفلاحون بالهدوء والصمت .
وفى اليوم التالى رآهما الفلاحون مقبلين من بعيد .
وفى اليوم الثالث كانا يعدوان بجواديهما كأنهما فى حلبة السباق .. فنفرت البهائم العائدة من الحقول .. وذعر الغلمان ودهس أحد الجوادين المنطلقين غلاما صغيرا كان يلعب بجوار الترعة .. فقتله ..
وقبل أن يبلغ الجنديان المدينة .. أصابت راكب الجواد الاشهب الذى قتل الغلام رصاصة فسقط على الجسر .
وحوصرت القرية القريبة من مكان الحادث وفتشت وضرب أهلها بالكرابيج ..
ورغم هذا لم يستدل على الفاعل ..
واستمر الحصار وكان والد الغلام القتيل متوفيا فقبض على كل من يمت له بصلة .. ومنع الأهالى من الخروج إلى الحقول بعد الغروب .. واستمر التحقيق اسبوعا بطوله ..
وقرر الطبيب الشرعى أن القتيل أصيب من رصاصة أطلقت من مسافة بعيدة تزيد على مائة متر .. وأن الرامى أصاب سويداء القلب ، وأنه لم يحدث فى حياته كطبيب أن رأى مثل هذا التصويب ..
ورأى المحققون أن القاتل لابد أن يكون مدربا تدريبا متقنا على ضرب النار .. ويرجح أن يكون من عساكر الرديف ..
وقبض على كل عساكر الرديف فى المنطقة .. وقدم من القاهرة جنود بلوك الخفر وعلى رأسهم ضابط مصرى اشتهر فى أيام الثورة بكراهيته الشديدة للمصريين .. وأخذ فى جمع السلاح من كل بيت فى القرية ..
وكان يحلف الرجل على المصحف .. فإذا أخرج ما عنده تركه .. وإذا لم يكن لديه سلاح .. شد الجنود وثاقه وعلقوه فى حديد الشبابيك .. وأخذوا يضربونه ضربا مبرحا .. حتى يغمى عليه .
وبدأ بالأعيان .. وبالرؤوس .. ليكون الاذلال تاما .. وتكومت قطع السلاح .. وظل الأهالى يصرخون من التعذيب حتى قارب الليل منتصفه .. ثم تعشى العساكر وناموا ..
***
وفى الصباح القى الضابط نظرة على قطع السلاح التى جمعها .. وأخذ يجرب بعضها فى ضرب النار .. ثم أخرج مسدسة .. وأخذ يصوب .
وكان يصيب الهدف من كل الأبعاد .. ورسموا له دائرة بحجم القرش فأصابها من مسافة عشرين مترا ..
وأخذ العمدة والأعيان يصوبون مثله .. ولكنهم كانوا يخطئون الهدف فى معظم الحالات .. وأخذت الضابط الحمية فسمح للأهالى بأن يشتركوا فى المباراة .. ولكن لم يبلغ أحد شأوه .. وظل هو المتفوق الذى ليس له ضريب .
وأظهر براعته الخارقة بأن كتب اسمه على الحائط بالرصاص وصفق له الناس .. ورجع بكرسيه إلى الوراء وهو يضحك مزهوا ..
***
ولم يكتف بهذا الانتصار .. بل فكر فى شىء مثير .. فقرر أن يقف أحد الخفراء فى الساحة بجوار حائط " الدوار " وعلى لبدته الحمراء .. بيضة دجاجة !!
ومع كل ما فى المسألة من حماقة لم يستطع أحد أن يفتح فمه ..
ووقف الخفير المسكين .. وطارت البيضة من فوق رأسه وصفق الناس .. وضحك الضابط ..
وقرر أن يخلع الخفير اللبدة وأن توضع البيضة على رأسه وذهل الناس ونظر بعضهم إلى بعض .. ولكن لم يستطع واحد من الجالسين أو الواقفين أن يعارض هذه الرغبة ..
ووضعت البيضة على رأس الخفير المسكين وامتلأت الساحة بالأهالى .. وكتم الناس الأنفاس .
وخيم السكون واستقرت العيون كلها على رأس الخفير .. وكفت القلوب عن الخفقان .. واستعد الضابط ليضرب ضربته .
وفى هذه اللحظة .. انطلق شىء وهو يصفر من فوق رأس الضابط .. وطارت البيضة ..
وتلفت الضابط والناس مذعورين .. ووجدوا رجلا يقف وحده وراء الساحة .. ويمسك بيده اليسرى بندقية قصيرة .
وصاح أحد الواقفين
ـ حسين الاشول ..
وظل الاشول هناك فى مكانه أكثر من دقيقة يرقب القوم فى الساحة بعينى صقر .. ثم وضع البندقية فى كتفه وبارح المكان .
***
وفى ساعة الظهر رأى الضابط من نافذة السيارة .. نفس الرجل الاشول .. يهبط بحمل صغير التل .. وعلى كتفه نفس البندقية .. فوضع الضابط يده على مسدسه .. وأخرجه من جيبه .. وهو يتابع الاشول ببصره .. ومرت لحظة رهيبة .. شعر الضابط بعدها بيده تعيد المسدس إلى مكانه ..
ولما انطلقت السيارة فى أقصى سرعتها وغاب الرجل عن بصره .. كان الضابط يسائل نفسه فى تعجب ..
ـ لماذا لم يقبض على الرجل .. بعد أن تيقن أنه هو الذى قتل الضابط الإنجليزى .. لماذا ..؟ ولماذا حتى لم يجرده من سلاحه ؟
وأشعل سيجارة شعر بعدها بالراحة .
وكانت السيارة قد اقتربت من المحطة ..
===============================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية 19/8/1956 واعيد نشرها فى مجموعة قصص من الصعيد من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)